تمرّ في حياة الإنسان لحظات يشعر فيها بالوحدة العميقة. ليست وحدة جسدية بالضرورة، بل شعور بالانفصال العاطفي أو الروحي أو الداخلي. قد يكون الإنسان محاطاً بالناس، ومع ذلك يشعر بأنه غير مرئي أو غير متصل

في مثل هذه اللحظات، قد يخرج من الداخل دعاء بسيط وصادق
«لا تتركني وحدي»

هذا ليس تعبيراً عن ضعف، بل طلب عميق للاتصال والانتماء والطمأنينة بأن الوجود له معنى. من أصدق هذه الأدعية ما ورد في القرآن الكريم على لسان نبي الله زكريا عليه السلام

رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ
سورة الأنبياء، الآية 89

رغم أن الآية تشير ظاهرياً إلى طلب الولد، إلا أن معناها يتجاوز مسألة الأبوة. هي تمس حاجة إنسانية أساسية: أن يشعر الإنسان أن حياته متصلة، وأن وجوده ليس منقطعاً أو بلا أثر، وأن له مكاناً في هذا العالم

هذا الدعاء لا يتحدث فقط عن الإنجاب، بل عن الاستمرارية والمعنى والمساهمة. هو اعتراف إنساني صريح بالاحتياج، مقرون بالثقة والتسليم في الوقت نفسه

الوعي بالذات يبدأ بحوار داخلي صادق

في عملي ضمن Unbox The Real You™، أستخدم منهجية BEMA™، أي الأبعاد الأربعة للتغيير: الجسد، العاطفة، العقل ونظام المعتقدات، والمساءلة عبر الفعل
هذه الآية القصيرة تعكس هذه الأبعاد بشكل واضح

الوعي بالذات لا يبدأ بالتحليل، بل بالصدق مع النفس. من المفيد أن يدوّن الإنسان إجاباته عن الأسئلة التالية، وأن يبدأ حواراً داخلياً واعياً. من هنا تبدأ إعادة الاتصال الحقيقي

الجسد: الشعور بالوحدة الجسدية

كان دعاء زكريا عليه السلام مرتبطاً بالواقع الجسدي للحياة. كان يطلب ألا يرحل دون امتداد يحمل اسمه أو رسالته. هذا الشعور يتكرر اليوم بأشكال مختلفة. قد يشعر الرجل بأنه وحيد في مسؤوليته، أو غير مدعوم صحياً، أو منفصل عن جسده بسبب الضغط المستمر أو غياب الراحة

من المهم أن يسأل نفسه
أين أشعر بعدم الدعم الجسدي في حياتي؟
هل هو في البيت، أو في الجسد، أو في نمط العيش اليومي؟

العاطفة: الشجاعة في الاعتراف بالاحتياج

الطلب الصادق يتطلب شجاعة. كثير من الرجال يتعلمون إخفاء رغباتهم أو احتياجاتهم خوفاً من الضعف أو الخيبة. لكن الصدق العاطفي هو أساس التحول

زكريا عليه السلام لم يُخفِ شوقه، ولم يتجاوز إنسانيته باسم الإيمان. دعا بوضوح ومن القلب

السؤال هنا:
ما الذي تشتاق إليه فعلاً، ولم تسمح لنفسك بعد أن تعترف به؟

العقل ونظام المعتقدات: الثقة دون محاولة السيطرة

قول زكريا «وأنت خير الوارثين» يعكس فهماً عميقاً للتوازن بين الطلب والتسليم. هو يطلب، لكنه لا يحاول التحكم بالنتيجة. يعترف بأن النظام الإلهي أوسع من الرغبة الفردية.

هذا النوع من الإيمان ليس انسحاباً، بل ثقة واعية

من المفيد أن يسأل الإنسان نفسه
هل أثق بأن ما كُتب لي لن يفوتني؟
ما المعتقدات التي ما زلت أحملها عن النقص، أو الاستحقاق، أو توقيت الحياة؟

المساءلة عبر الفعل: قول الحاجة هو فعل

رغم أن الله يعلم ما في القلوب، إلا أن زكريا نطق بدعائه. الفعل هنا هو التعبير نفسه. الدخول في علاقة واعية مع الاحتياج

في الحياة اليومية، قد يكون الفعل هو الدعاء، أو الكتابة، أو اتخاذ خطوة صغيرة تعبّر عن الحاجة الحقيقية، بدلاً من إنكارها

السؤال هنا:
هل قمت بأي خطوة منسجمة مع ما أحتاجه داخلياً، أم اكتفيت بالتفكير فقط؟

اللاوعي والرسائل الداخلية

في لغة اللاوعي، الشعور بالوحدة لا يكون دائماً سلبياً. أحياناً يشير إلى حاجة للعودة إلى الذات، أو إلى جزء داخلي تم تجاهله أو إسكاته

إذا حضرت هذه الآية في الصلاة، أو التأمل، أو حتى في حلم، فقد لا تكون عن العزلة الخارجية. قد تكون رسالة داخلية تطلب عدم التخلي عن الذات، أو عن حلم قديم، أو عن جانب لم يُمنح ما يكفي من الاهتمام

عبارة «وأنت خير الوارثين» تذكّر بأن الجوهر محفوظ. حتى عندما تتغير العلاقات أو تنتهي الأدوار أو تتبدل الهويات، تبقى القيمة الداخلية قائمة

أنت لست وحدك

إذا كنت تمرّ بمرحلة تشعر فيها بالانفصال أو التراجع أو عدم التقدير، فهذه الآية تذكير بأن وجودك له وزن ومعنى.

من حقك أن تطلب.
من حقك أن تشعر بالاحتياج.
وأنت في الوقت نفسه محمول بشيء أوسع من ظروفك.

The Real You لا يُقاس بعدد من حولك، بل بمدى صدقك مع نفسك، وبالوعي الذي تحمله، وبإدراكك أنك جزء من سياق أكبر لا ينقطع